في الوقت الذي تحلّ فيه الذكرى العشرون لمأساة البوسنة والهرسك، والذكرى السابعة عشرة للإبادة الجماعية (Genocide) التي وقعت في سريبرينيتسا عام 1995، وتركت جراحًا عميقة في الضمير الإنسانيّ، جراء ما تعرَّض له المدنيّون المسلمون في البلقان من قتل وتدمير وتهجير

في الوقت الذي تحلّ فيه الذكرى العشرون لمأساة البوسنة والهرسك، والذكرى السابعة عشرة للإبادة الجماعية (Genocide) التي وقعت في سريبرينيتسا عام 1995، وتركت جراحًا عميقة في الضمير الإنسانيّ، جراء ما تعرَّض له المدنيّون المسلمون في البلقان من قتل وتدمير وتهجير على أيدي القوات الصربيّة، وفي الوقت الذي تتداعى فيه صور أخرى لمآسٍ إنسانية شهدتها مناطق مختلفة من عالمنا عبر العقود الماضية، وكان ضحيتها أبرياء لا ذنب لهم سوى اختلاف مذاهبهم الدينيّة عمن يقومون بمثل هذه الجرائم البشعة لأسباب سياسيّة محضة وليس دينية، لكنها متلبِّسة بالدين، فإننا نؤكِّد تأكيدًا صريحًا مشتركًا:

أن عالمنا بكلّ أديانه ومذاهبه، والأطياف السياسية والاجتماعية التي تلوّنه، يجب أن لا يتخلّى عن مسؤوليته الإنسانيّة المشتركة في الحفاظ على حقّ كلّ إنسان في الأمن والكرامة والاستقرار والمساواة، حيثما كان يعيش، وأيًّا كان عِرقه أو ثقافته أو مذهبه الدينيّ أو معتقده الأيديولوجي أو اتجاهه السياسيّ.

رفض كل أشكال التمييز العنصريّ والممارسات القائمة على العصبيّة بمختلف أنماطها. وإحلال أُسس العدل الاجتماعيّ والديمقراطية والنزاهة بين المواطنين، وتحييدهم دون المسّ بحقوقهم الإنسانيّة في حال النزاعات المسلّحة. كذلك رفض ممارسات العقاب الجماعيّ وما يترتب عليها من انتهاكات لكرامة الإنسان وحقّه في الأمن والأمان لنفسه وممتلكاته والتعبير عن رأيه.

أن المسلمين يشاركون إخوانهم في الإنسانيّة التمسُّك بالحريّة المسؤولة، ويحبون لأنفسهم كما لغيرهم هذه الحريّة، ويقدرون مبدأ المواطنة والمبادىء التي تقوم عليها حقوق الإنسان في المجتمعات متعددة الثقافات، انسجامًا مع تاريخهم الحضاريّ الذي تكوَّن في مجتمعات وبيئات متنوّعة كما هو الغرب اليوم بقاراته التي تحتضن العديد من الأديان والأمم واللغات والثقافات. كما يؤمنون بالمصير الإنسانيّ المشترك ومسؤولية الجميع عن عمارة الأرض التي يحيون فوقها، والتي لن تتحقَّق باستشراء ممارسات تمييزية لهم أو لسواهم من البشر، وبذر بذور الكراهيّة بسبب الدين أو الجنس أو اللون. فالمسؤولية الإنسانية المشتركة تحتم على الجميع تعظيم الجوامع المشتركة بينهم، وفي مقدمتها القيم السياسية والثقافية والأخلاقية التي تنهض عليها الحياة الأفضل والتنمية للمجتمعات.

لا بد للعالم بدوله وأقاليمه وللمؤسسات الدينية المُمثِّلة للأديان والمذاهب أن تبقي على لغة الحوار قائمة وعلى قنوات مفتوحة بينها لمزيدٍ من التفاهم والتفهم، وإيجاد لغة مشتركة تتكوَّن من خلالها الرؤى التوافقية للقضاء على أشكال العنف المستندة إلى تفسيرات وتأويلات مذهبية لا تتوافق والمبادىء الإيمانيّة والإنسانيّة والعقلانيّة، والقضاء على التسميات الموحية بالصدوع العميقة بين أتباع الأديان والمسببة للخوف من الآخر والتخوّف المرضي من وجوده.

ذلك كلّه يتطلّب تأكيد ما جاء به إعلان المسلمين الأوروبيين A Declaration of European Muslims، الصادر بتاريخ 24 شباط/ فبراير 2012، ولا سيما فيما يتعلَّق بضرورة الالتزام ببرنامج مشترك شامل للحوار الديني، من شأنه أن يوضح تعقيدات السياق العلماني في العالم المعاصر، وتعزيز التفاهم واحترام الاختلافات، والعمل على استكشاف أرضية مشتركة للجميع، مع تأكيد الهويات الدينية بوصفها أدوات مهمّة للتعامل مع حالات فقدان الأمن والنزاعات، وتعلُّم احترام أسس التعايش والتنوّع في مثل هذه الحالات، والمشاركة في الحوار العالميّ المتعلق بحقوق الإنسان، وفهم الآخر، كذلك فهم العلاقة المعقَّدة بين الثقافة والدين والسياسة والاقتصاد، وبذل جهود مشتركة من أجل الحقيقة والعدل والسلام، بما في ذلك تعرُّف الخلافات المحتمل وقوعها، واستباق الزمن لتجنبها بمنهج من القيم الأخلاقية والمعنوية، لتكوين قاعدة مشتركة من التعايش الديني تسوده روح التآلف الإنساني والأمل بمستقبل يشترك الجميع في بنائه.