يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:

 

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُّرُّ كامِنٌ فَهَل سَأَلوا الغَّوّاصَ عَن صَدَفاتي

نستذكر هذا البيت، الذي يمرّ هذا العام 150 عامًا على مولد قائله، والعالم يحتفي باليوم العالمي للغة العربية، الذي يوافق الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، وهو اليوم الذي اتخذت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1973 قرارها التاريخي باعتماد اللغة العربية لغة سادسة في المنظمة.

تمثّل اللغة من الناحية الوجدانية والشعورية روح الأمة. أما من الناحية الثقافية والحضارية فهي الوسيلة الناقلة للأفكار والمعرفة والتقاليد والخبرات عبر الأجيال المتعاقبة في تاريخ الأمم والشعوب. ولا يمكن أن ينمو التفكير من غير اللغة. فاللغة هي التي تمدّ الفرد بالألفاظ التي تطلق على المعاني الكلية وهي التي تمكنه من السموّ بفكره من المحسوسات إلى المجردات وربط المعاني الكلية بالألفاظ الدالة عليها والتمييز بين أسماء الأشياء وأسماء الأجناس.

اللغة هي وعاء للفكر وأداة للتفكير. فهي وسيلة التفاهم والتواصل الاجتماعي. ولكنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأفكار التي تنقلها وتتأثر وتؤثر بها. يقول الفيلسوف الألماني فشْته: إن اللغة تؤثر في الشعب الذي يتحدث بها تأثيرًا لا حد له، يمتد إلى تفكيره وإرادته وعواطفه وتصوراته، وإلى أعماق أعماقه، وإن جميع تصوراته تصبح مشروطة بهذا التأثير ومتكيّفة به.

نحن دومًا في حاجة إلى التفكّر في واقع لغتنا وطرائق النهوض بها وتقديم الدعم لها بكافة السبل. ولا ريْب في أن لغتنا العربية جديرة بأن نبذل المزيد من أجل أن تبقى حيّة على الألسن؛ حاضرة في الأقلام؛ سامقة في مكانتها بين غيرها من اللغات العالمية. فاللغة، بالنسبة لنا، لا تنفصل عن الانتماء لديننا وحضارتنا وهويتنا.

وتنبئُ مسيرة اللغة العربية في العصر الراهن بأنها آخذة في التطور والانتشار، حيث نجد اتساع نطاق استعمالها، وازدياد نسبة التعليم بها، واستيعابها في مصطلحاتها لمعظم منجزات العصر الحديث، وتقنيات التقدم العلمي. إن خير سفير للغة العربية اليوم هو تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها بسبب زيادة الرغبة لدى الأفراد والشعوب في مشارق الأرض ومغاربها في تعلم اللغة العربية. وهو أمرٌ لم يحصل بهذا الزخم في القرون الخالية.

وقد رافق ذلك مظاهر تأثير الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في اللغة العربية، وما نجم عن ذلك من مشكلات لغوية. كما زاد اهتمام الباحثين الجادين في مجال حوسبة اللغة العربية الذي يحظى باشتغال الحاسوبيين واللسانيين، ويواجه تحديات كبيرة في مجال التطوير وتوفير الموارد والتقنيات الضرورية.

لا بد من تعزيز التفاعل بين اللغة العربية والعلوم الحديثة الأخرى في التدريس والبحث والتأليف والترجمة. بذلك، تواكب اللغة العربية العصر التكنولوجي الراهن باستيعاب المفاهيم والمصطلحات العلمية الحديثة.

نشهد اليوم عصر الاتصالات والمعلومات، والمعرفة، والحكمة، والترفيه الذي نواجه فيه تحديات جمة، ويفتح أمامنا في الآن نفسه آفاقًا واسعة. وإذ يقف العالم على أعتاب عصر الثورة الصناعية الخامسة، التي تُركّز على دمج التكنولوجيا الحديثة مع الذكاء البشري بدرجة أكبر ممّا كانت عليه في الثورة الصناعية الرابعة، فإن الثورة الصناعية الخامسة تهدف إلى إقامة علاقة أكثر توازنًا بين التقنيات الحديثة والإنسان. عندئذ، يكون الاعتماد على استخدام الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة وإنترنت الأشياء بشكل متصاعد مع التركيز على استعمال الذكاء البشري أيضًا بشكل كبير. بذلك، يتحقق الجمع بين الذكاء الاصطناعي في تنفيذ الأعمال ذات الطبيعة المتكررة والذوق الإبداعي للإنسان.

لا شك في أن هذه الثورة ستُسهم في اتساع نطاق العمل عن بعد بشكل كبير وستزيد من التفاعل بين الروبوتات والبشر وسيكون للتقنيات المستخدمة ضرر أقل على الإنسان والبيئة.

وأخيرًا، يذكرنا اليوم العالمي للغة الضاد بضرورة تكثيف الجهود في سبيل الاستمرار في إغناء الاستعمالات المختلفة للغة العربية وتشجيع الترجمة منها وإليها. وإذ نعيش حقبة زمنية اختلطت أحوالها وانقلبت موازينها، ما أثّر سلبًا في واقعنا السياسي والاجتماعي والفكري والثقافي، حتى إن الأمر طال لغتنا وحضارتنا ومسّ – في الآن نفسه - هويتنا، فإنه يعوّل علينا كثيرًا في إنصافها، ويؤمّل فينا الذّوْد عنها والدفاع عن حياضها، وعلى قَدْرِ أهلِ العَزمِ تأتي العَزائمُ.