عن نهج البلاغة للإمام عليّ بن أبي طالب (كرَّم الله وَجْهَه): - "إنّ اللهَ سبحانَه فَرَضَ في أموالً الأغنياء أقواتً الفقراء. فما جاعَ فقيرّ إلاّ بما مُتًّع به غنيّ".
- "وقد أصبحتمْ في زمنْ لا يزدادُ الخيْرُ فيه إلاّ إدْبارًا ، والشّرّ فيه إلاّ إقبالاً ، والشّيطان في هلاك النّاس إلاّ طمعًا... اضْرًبْ بطَرْفًكَ حيث شئتَ من النّاس: هل تُبصًرُ إلاّ فقيرًا يكابد فقرًا؟ أو غنيًّا بدَّل نعمةَ اللهً كُفْرًا؟ أو بَخيلاً اتّخذ البُخْلَ بحقّ الله وَفْرًا؟ أو متمرّدًا كأنّ بأُذنًه عن سَمع المواعظ وَقْرًا؟ أين خًيارُكُم وصُلَحَاؤكم ، وأحرارُكم وسُمَحَاؤكم؟ وأين المتورًّعون في مكاسًبًهًم ، والمتنزّهُون في مذاهبهم؟".
إنّ الفقرَ لا يَعْني الفقرَ المادّيّ. فكلّ ما يَحًدّ الطّاقةَ البشريّةَ ويُقزّمُ الإنسانَ نفسيًّا أو مادّيًّا أو روحيًّا أو وجدانيًّا هو فَقْر: وكلّ ما يستلًبُ حقًّا من حقوقً الإنسان أو يَكبحُهُ أو يَقمعُهُ هو فَقْر.
فالمفهومُ أوسع من مجرّد الجوعً أو العطشً أو الضَّنَك تحت سيْفً المجاعاتً والأوبئةً والتصحّر ، وما إلى ذلك.
ولعلّه من نافلة القول إنّ رأس المال البشريّ هو قوامُ الوطن والأمّةً والمجتمع. فإذا قُيًّد واستُنزًف من أجل قُوتً يوْمًه ولقمة عَيْشه ، تباطأ التّقدّم برمّتًهً ، وأصبحت التّنميةُ وَهْمًا في وَهْم.
ولا ننسى أنّ الّلاجئين ، والمهجّرين ، والمهاجًرين ، والمقتلَعين من أرضهم - أيًّا كانت مصادرُ الهجرةً والتّهجير ، كتغيُّرً المُناخً والحروبً والنّزاعات وضروبً الاستبداد - هم في صُلب قضيّةً الفَقْرً والفقراء.
كيف نُساعد هذا الحَشْدَ من الفقراء؟ بالاكتفاء بالهًباتً والتّبرّعاتً والعطايا والتّكايا؟ لا ريْب أنّ الزّكاةَ بمفهومها الواسع تُساعدُ أيّما مساعدة: لكنْ في النّهاية نعودُ إلى المثلً الصّينيّ القديم الذي يشجّع على تعليم الفقيرً الصّيْد ، بدلاً من أنْ يُعطى سمكة.
ذاك الحَشْدُ من الفقراء هو - للأسف - خارجَ الزّمان والمكان ، وعلى الأخصّ خارجَ خُططً التّنميةً والاقتصاد. فلن يُساهمَ ، إذًا ، في أيّةً تنميةْ شاملةْ أو مستدامة. ويا له من هَدْرْ على كلّ صعيد، وإيحاءاتُ ذلك وتداعًيَاتُهُ واضحةّ فيما يتعلّقُ باستقرارً المجتمعً وأمانًه. فالكلّ يخسرُ إذا استمرّ الوضعُ على حالًه.
لا يُمكنُ أنْ يتقدّمَ المجتمعُ وأنْ يُنتًجَ حقًّا من دون أنْ يكونَ الجميعُ أصحابَ أسهمْ فعليّة. فهذا مبدأ إنسانيّ عام سَرَى ويَسْري منذ القًدَم. وإلاّ ، فكيف ينمو الانتماءُ والولاءُ للوطن؟ أفلا يتعلّقُ ذلك بمفهومً المواطَنةً في أُسّ أساسًه؟ نعم: هي الاعتباراتُ العمليّة ، التي تُخرجُنا من دائرةً القوْل إلى دائرةً الفعلً المؤثّر.
هنا يأتي مبدأ القانون في خدمة الجميع ومفهوم التّمكين القانونيّ للفقراء المُتجذّر من أَلفًهً إلى يائًه في هذه الاعتبارات من آليّاتْ وجداولً أعمال ومشروعاتْ واستراتيجيّاتْ للتنفيذ. فهنالك أُطُرّ عمليّة للوصول إلى العدالة ، وحقوقً المًلكيّة ، وحقوقً العمل ، وحقوقً ممارسةً الأعمالً التّجاريّة.
والأجدى أنْ نتحرّك في هذا الشأن من القاعدةً إلى القمّة ، وليس العكس. فالفقراء أدرى بًشًعابًهم وهمومًهم واحتياجاتًهم: لأنّهم هم الذين يجب أنْ يطبعوا القانونَ المنشود بطابَعًهم حتّى يُخلّصوا أنفسَهم من الفقر. ولنْ يكتملَ الأمرُ من دون اهتمامْ بالوسائلً والآليّات ، بما في ذلك الوسائلُ والآليّاتُ غيْرُ التّقليديّة: أي المبتَكَرةُ والمُبدًعة.
والأملُ أنْ يتحلّى النّاتج بالمرونة الكافية لتصويبً نفسًهً بنفسًه. ولن يكونَ ذلك إلاّ بالممارسةً والتّطبيق بنزاهةْ كاملة.
إنّ الموضوع أكبرُ ممّا يُظنّ لأوّل وهلة. فعدا التّشريعات الذّكيّة والحكيمة ، المنطلقة من تراكم الخبرةً والممارسة ، هنالك عالَمّ واسعّ يستحقّ العنايةَ من مدارس ، ومعاهد ، ومستوصفات ، وخًدماتْ اجتماعيّة ، وحتّى بنوك للفقراء وبنوك طعامْ للجياع ، كما حُقًّق فعلاً في ماليزيا ومصر.
إنّها دعوةّ إلى القطاعيْن العام والخاصّ ، وإلى المجتمع المدنيّ: أي الفضاء الثّالث. فلا يُعقَل أنْ نَشنَّ حربًا شاملةً على الفقر في كلّ مكان من دون التّكافلً والتّعاونً والتّضافرً بين جميع القطاعات.
ولا بدّ من أنْ تتواءَم الجهودُ المحلّيّة مَعَ الجهودً الدوليّة. فالفلسفةُ واحدة ، والإنسانيّةُ مشترَكة ، والنّسيجُ واحد. فالمسبّبات - من قَبْلُ ومن بَعْدُ - واحدة. ولعلّ أهمّها التّغيُّرُ العالميّ في المُناخ ، والهًجراتُ المختلًفة ، وشُحّ الموارد فوْق القطريّ ، بل فوْق القارّيّ أحيانًا.
إنّ مشروع التمكين القانوني للفقراء هذا يَهدفُ إلى شنًّ حملة شاملة ليس فقط ضدّ الفقر ، وإنّما أيضًا ضدّ الإقصاء والتّهميش من كلّ نوعْ ولون. فهي البدايةُ لسيْرورةْ لنْ تتوقّفَ بإذنًهً تعالى للإصلاحً الشّامل.
(تأتي هذه المقالة بمناسبة إشهار النّسخة العربيّة من كتاب "من أجل قانون في خدمة الجميع" - تقرير لجنة التّمكين القانونيّ للفقراء - في عمّان: 16 أيار 2010).
ہ رئيس منتدى الفكر العربيّ وراعيه: رئيس منتدى غرب آسيا وشمال إفريقيا: عضو في لجنة التمكين القانوني للفقراء: سفير الإيسيسكو للحوار بين الثقافات والحضارات: رئيس شرف منظمة المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام.