يقول الله تعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه" البقرة: 185 صدق الله العظيم.
يهلّ علينا شهر رمضان المبارك، الذي يطيب لي أن أهنئ الأمة الإسلامية بمقدمه، متمنياً للجميع صوماً مقبولاً، وقياماً مأجوراً. ففي رمضان تتعلق قلوب المسلمين بالسماء وتنعقد عزيمتهم على فعل الخيرات، وهم يتطلعون للتزود بالفوائد الروحية والسمو الإنساني على المستويين الفردي والجماعي. فكرامة الإنسان والعدل والسلام وحب النظام والاجتهاد والالتزام بالوقت قيم يلقنها لنا الصيام على أساس أنها فضائل جمعية وخصائص إيمانية، فهل نجعل منه حقاً شهراً للسماحة والصبر والإحسان والمغفرة؟
نحن نعلم أن رمضان فرحة كُبرى تعيشها الأمة الإسلامية هذه الأيام، لأنها إزاء دورة جديدة من دورات الحياة، تمرّ عليها الأيام وتمضي الشهور، ويحلّ بها هذا الموسم الكريم، وهذا الشهر العظيم، وله ماله من الخصائص والمزايا، وما أُعطيت فيه هذه الأمة من الهبات والعطايا، وخصّت فيه من الكرامات والهدايا، فيا لها من فرصة عظيمة، ومناسبة كريمة تصفو فيها النفوس، وتهفو إليها الأرواح، وتكثر فيها دواعي الخير، ويتداعى فيها الخيرون للإصلاح.
وإذا كانت المجتمعات تحتاج إلى فترات من الصفاء والراحة؛ لتجديد معالم الإيمان، وإصلاح ما فسد من أحوال، وعلاج ما جدّ من أدواء، فإن شهر رمضان المبارك هو الفترة الروحية التي ينبغي أن تجد فيها أمتنا فرصة لإصلاح أوضاعها، والتي تعقدت، وتفاقمت معضلاتها الإنسانية من صراع وحروب ودمار، وفقرٍ ومرض وجهل، وتزايدت فيها الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وغاب العدل الاجتماعي، وتدهورت أوضاع حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وحالة الاغتراب والانحراف الأخلاقي، والكوارث البيئية والطبيعية والإنسانية.
إن شهر رمضان هو مدرسة الروح والفكر والضمير، ودورة تصحيحية لنواقص النفس البشرية، يحتاج فيها الإنسان إلى التكامل وإلى ما يطهّر نفسه ويزكيها فيخرجه من ماديّته الحالكة إلى معنوية وضاءة تؤدي به إلى التقرب إلى الله تعالى وإلى حلول حب الله، جل وعلا، في نفسه، ويذيب المادية التي تعارض معنوية النفس وسير تقدمها نحو الكمال المنشود، ويتوسع فيها عقله وجسمه وروحه، لأن الصوم من أجلى مظاهر العبودية، وخير وسيلة لتكامل النفس الإنسانية.
فرمضان شهر الفضيلة، يتدرب الناس فيه على الصبر والمثابرة، ويقوون فيه عزائمهم ويهذبون عواطفهم ويقومون طرائق تفكيرهم، وهو شهر المواساة، الذي يتواضع فيه الغني على مستوى الفقير، ويرتفع فيه الفقير إلي مستوى الغني، وهو شهر المحبة و الصفاء، يتعاون فيه الناس فتَرِفُّ قلوبهم على ضعفائهم، فيسدون يد العون والمعروف، ويشعرون بأدواء المجتمع، ويعملون لمعاجلة قضاياه.
أقول إن أوضاع أمتنا المأزومة كلها تدعونا لأن نجعل من هذا الشهر الفضيل مناسبة نؤدي فيها دورنا المنوط بنا في الحياة الإنسانية، وأن نُقَوِّم بروحانيته الضامنة لتماسك القيم والأخلاق في مجتمعاتنا. إذ نحن مدعوون اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، أن نتعاون فيه فيما بيننا، ونتخذ من الخطوات العملية والجريئة ما يمكننا من الإسهام في حماية مجتمعاتنا مما يتربص بها من أخطار وتحديات، وأن نبدأ رحلة جديدة للبحث عن الحقيقة والمعنى فيما تنطوي عليه من خصب وغنى، ومحاولة فهم تكامل أبعادها وتنوعها وتعدد مكوناتها، من أجل تهيئتها لغدٍ يسوده الإخاء والتسامح والتعايش والحوار والتعاون والتضامن.
فالعقل يهدينا إلى الحوار والإيمان بالحق وأن ندور معه أينما دار، والعصبية تدعونا إلى الدفاع عن الذات وما يتصل بأنانية هذه الذات، حقا ًكان أم باطلاً. والدارس للإسلام يعلم تماماً أنه قد حضَّ على الحوار، مثلما انطوى على قيم الرحمة والمحبة والعدل والتعاون والعفو، ونعلم أن الطريق الأمثل للبشرية جمعاء هو نشر هذه القيم وممارستها في مناحي حياتنا الإنسانية بالحكمة والموعظة الحسنة. والحوار، مثلما هو قيمة دينية، فهو من ضرورات عالمنا المعاصر، ويعد من أهم أدوات التواصل الفكري والثقافي والاجتماعي، التي تتطلبها الحياة، لما له من أثر في تنمية قدرة الأفراد على التفكير المشترك، ووسيلة للفهم والتآلف والتعاون والتضامن، كما أنه يحرر الإنسان من الانغلاق والانعزالية والجمود، وينفي عنه ثقافة العنف والقوة والتسلط والإقصاء والتهميش، ويفتح أمامه مغاليق المعرفة والوعي.
وأمام هذه التصورات السلبية، ومن الرهانات والتطلعات المتوقعة لدور عقلاء الأمة، لا بد من أن نجعل من الحوار مطلباً أساسياً، نتداعى للسعي إليه فكراً وسلوكاً ومنهجاً. وأن ننبه مجتمعاتنا لأهمية الإحساس العام بقيمة تأصيله بيننا. وينبغي أن نعمل على تحصين هذه المجتمعات من التخلف والتعصب والانغلاق والعنف والإرهاب، وأن نعتبر الحوار جهداً ضرورياً يُسهم في بعث الوعي الإنساني بثقافة التعايش والتسامح والتعاون والرفق واللاعنف، استنهاضاً لمكنونات الخير في هذه المجتمعات.
إن القيمة المضافة لهذا الشهر هي بحق في تقريبه بين الناس بمنطق الرحمة، فهو يخرج بنا من المنظورات التجريدية للدين، على أهميتها، إلى حضور الهاجس الإنساني في راهن واقعنا الاجتماعي وما يتطلبه من سلام واستقرار، ودور الوازع الديني في ضمان العيش المشترك، والتأسيس لقواسم في الفهم مشتركة بين أبناء االمجتمع الواحد، ويرسي دعائم راسخة للتضامن، والتعاون على ضمان الحياة الكريمة للإنسان؛ أياً كان دين هذا الإنسان، أو عرقه، أو لغته، أو جنسيته.
وعلى هذا الأساس، ينبغي على الجميع، وخاصة القيادات الروحية، أن يعتمدوا لغة الحوار ومنهج التفاهم، وأن يتجنبوا الخلاف ويدافعوا عن حكمة الاختلاف، لمصلحة العيش المشترك في مجتمع إنساني تُصان فيه الحقوق، وتُحفظ فيه الحرمات، وتُوزع بالعدل الواجبات.
لقد آن لنا أن نتحد ونتحرر من خلافاتنا المُقْعِدَة، وأن ننهض لبناء حاضرنا ومستقبلنا، لا أن نستعيد صراعات التاريخ المشحونة بالظلم والاستبداد والجهل، ولا أن نجهد أنفسنا بالاصطفاف إلى طوائف متناحرة مزقت ماضينا، وتعطل مسيرة حاضرنا، أملاً ببدء عهد جديد يصلنا بمستقبل أكثر أمناً، وأوفر عيشاً، وأوسع رخاءً، وأصدق إخاءً.
وتعلمون أن شهر رمضان هو أحد أشهر الله الحرم، الذي يفترض أن تتوقف فيه الصراعات والتوترات والحروب. لذا، أدعو جميع أبناء الأمة العربية والإسلامية إلى احترام حرمة هذا الشهر الكريم وقدسيته، وأن نحترم التنوع والتعدد ومشروعية الاختلاف، وأن يتراضى الفرقاء في كل بلد تعصف به الخلافات والصراعات والتوترات والحروب، وأن يؤبوا إلى صوت العقل ونداء الحكمة.
ومثلما عمل منتدى الفكر العربي خلال أكثر من ثلاثة عقود على تدارس أحوال الأمة ومحاولة وضع معالجات لمعضلاتها، وتصورات لمجابهة تحدياتها، ورؤى استشرافية لنهوضها ونماء مستقبلها، فإنه على استعداد أن يكون في خدمة الأشقاء؛ منبراً للحوار، وتقريباً لوجهات النظر، وجمعاً للكلمة، وتوسطاً للتصالح، وتوحيداً للصف، ودعوة للتضامن، وحفزاً للتعاون، وتطويراً للشراكة، وتعزيزاً للتكامل. فما يميز المنتدى أنه لكل العرب، ويضم في عضويته نخب فاعلة من كل الأقطار العربية؛ داخل الوطن العربي وخارجه، الذين يمثلون كل أطياف المجتمع العربي وتنوعاته المؤتلفة لا المختلفة؛ من المفكرين وصناع القرار، وكل التخصصات، التي تصلح لأن تكون عوناً للأمة في هذا المنعطف الحرج، والذين أثق في قدرتهم على المساعدة في تجاوز الأزمات العابرة، والتي تمر بها بعض بلادنا العربية في الوقت الراهن، وتوصيف المعالجات المحققة للحرية والعدالة والمساواة والمواطنة المتكافئة وكرامة الإنسان.
و"إِنْ أُرِيدُ إِلّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ". هود 88
صدق الله العلي العظيم