مقالات الامير حسن
دكتور محمد نعمان جلال

أود في بداية هذا المقال أن أشير إلى أنني ترددت كثيراً قبل كتابته لاعتبارين شخصيين أولهما إنني لا أكتب شيئاً فيه النقد لمصر خارج أرض مصر، وثانيهما إنني لا أكتب شيئاً فيه نقد للبلد الذي أتواجد فيها وذلك بحكم فلسفتي في العمل الدبلوماسي، ولكنني بعد التردد حزمت أمري على كتابته من منظور مختلف كمواطن عربي مسلم مثقف يحب البحرين وشعبها، بطائفتيه الكريمتين، وقيادتها.

وفي متابعتي لأحوال البحرين منذ وطأت إقدامي أرضها لمست حقيقة ازددت اقتناعاً بها مع الوقت وزادت القناعة هذه الأيام وهي كلمة قيلت لي في أول لقاء في ندوة في جامعة البحرين حيث جلست بجانبي أستاذة قديرة كانت سوف ترأس الجلسة التي تحدثت فيها وسألتني هل أنت مصري؟ فقلت نعم فقالت إنكم سبب كل مشاكل العالم العربي بما في ذلك مشاكل البحرين.

وشعرت بالصدمة القوية ولكن بخبرتي الدبلوماسية تمالكت نفسي وسألتها كيف؟ فقالت إن البحرين «قلدت النموذج المصري في عهد عبدالناصر وفي عهد السادات وفي كلتا الحالتين لم يساعدها النموذج المصري وسبب لها المشاكل وأخفقت البحرين نتيجة لذلك». هذه المقولة ظلت عالقة بذهني وأتذكرها كثيراً وخاصة في هذه الأيام عندما لمست أن بعض الأخوة المعتصمين يرددون شعارات ثورة 25 يناير/ كانون الثاني المصرية فقلت في نفسي إنهم لم يتعلموا درس من الأستاذة التي سبق وأشرت إليها وياليتهم درسوا تاريخ البحرين وثقافتها وحضارتها وظروفها السياسية والاقتصادية وموقعها الجغرافي وتكوينها الديموغرافي وتكوينها الديني ولو فعلوا ذلك بجدية ما رددوا شعارات ثورة مصر لأن مصر مختلفة عن البحرين ولكل دولة خصائصها وسماتها وظروفها ومن ثم كان على هؤلاء أن يبتكروا شعارات تناسب ظروفهم ولا يأخذوا بتقليد الآخرين. وتذكرت أن الحركات الثورية العريقة لم تأخذ من غيرها سوى القليل وابتكرت شعاراتها وفلسفتها ومنهجها، وبما أنني دارس للصين فإن الصين الشيوعية في عهد ماوتسي تونج لم تأخذ بالفكر الماركسي الذي عبر عنه كارل ماركس ولينين بل رجع ماوتسي تونج إلى تاريخ الصين وظروفها وقدم فلسفة خاصة به، وهي الاعتماد على الفلاحين بدلاً من الاعتماد على البروليتاريا كما ذكر كارل ماركس، وعندما جاءت حركة الإصلاح والانفتاح في الصين بقيادة دنج سياو بنج فإنها ابتكرت نموذجاً صينياً تحت شعار «الاشتراكية بخصائص صينية» بل طرح شعار «بلد واحد ونظامين» واستردت عن طريقه هونج كونج وشعار «بلد واحد وثلاثة أنظمة» وتسعى لاسترداد تايوان عن طريقه...

السؤال الذي أطرحه على الإخوة في البحرين هل يمكن عمل ثورة أو حركة لا يهم المسميات يطلق عليها «الإصلاح بخصائص بحرينية». إنني أعتقد أن الابتكار هو سر النجاح في حين أن التقليد هو كارثة الشعوب، إن إعمال العقل الموضوعي بتفكير إيجابي هو ما دعانا إليه القرآن الكريم، في رفض تقليد الأديان القديمة برفضه مقولة (هذا ما وجدنا عليه آباءنا) بل يجب علينا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين أن نفهم تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا ونعمل طبعة جديدة تعبر عن ذلك كله وأتمنى من الإخوة في البحرين من الطوائف المختلفة كافة أن ينسوا تجربة مصر أو تونس أو تجارب اليمن أو ليبيا أو العراق أو لبنان أو إيران أو غيرها، ويقدموا أنموذجاً بحرينياً خالصاً يكون فيه الهناء والسعادة لشعبها بكافة أطيافه.

للأسف الثورة الفلسطينية حتى عندما طالب شبابها بالوحدة بين فتح وحماس قامت حماس بضربهم وتفريقهم في غزة. ومن ثم ينطبق عليها القصة المشهورة يتصارعون وروما تحترق وأتمنى ألا يحدث هذا في البحرين.

لقد أعجبت منذ مرحلة الشباب بمسرحية الكاتب يوجين يونسكو في مسرحيته الخراتيت المشهورة، وهو يعد قمة من قمم القرن العشرين في مقولة له «أيها النيرون أن شيئاً في عالمكم خطأ» وهي مقولة جديرة بالتأمل لكل من يعتقد في نفسه الصواب ولا يحاسب نفسه ولا ينتقدها، ومن ثم فإنني أدعو كافة الأطياف لمراجعة النفس وتوجيه النقد الذاتي لها بدلاً من الإحساس بالرضا وتوجيه النقد للآخرين وبدلاً من التخندق في موقع محدد بدعوى التمسك بالمبدأ أو بالحق،علماً بأن المبادئ والحقوق حمالة أوجه بل إن القرآن الكريم المنزل من الله سبحانه وتعالى قال عنه المفسرون حمال أوجه، وكذلك التاريخ دائماً يكتبه أناس من زاويتهم وينسون الزوايا الأخرى، ويعبرون فيه أحياناً عن ظروفهم ومكاسبهم ومعاناتهم، وينسون معاناة وظروف أطراف أخرى، ومن ثم فليس هناك تاريخ كامل وصادق تمام الصدق مهما حاول المؤرخون المحايدون.

إن يونسكو يعلمنا النقد البناء للذات والتفكير المنطقي العقلاني، كما إن نظريات التفاوض الدولي تعلمنا عدة مبادئ أساسية قد تفيد لكل من يشارك في العمل السياسي أو الدبلوماسي أو الحوار، ومن ذلك ألا تجعل الطرف المقابل يفقد ماء وجهه، ومنها ألا تجعل الطرف المقابل ظهره للحائط، ومنها ألا تحرق الجسر الذي يربط بينك وبينه فربما تحتاج هذا الجسر غداً، فكم صديق اليوم أصبح عدواً غداً وكم عدو اليوم أصبح صديقاً غداً.

إن الشجاعة ليست في استخدام القوة أو العناد أو التصلب في الرأي والموقف، بل الشجاعة في الحكمة والاعتدال والمرونة في القول والعمل، وأيضاً في الصدق والمصداقية حتى لا ينطبق على المتفاوض أو المتحاور القصة المشهورة، إن المرء يكذب أول مرة فيعرف أنه يكذب ويصدقه الناس، ويكذب المرة الثانية فيصدقه الناس ويصدق نفسه، ويكذب المرة الثالثة فيصدق نفسه ويكذبه الناس، هذا مؤدي حديث للرسول الكريم، ولكنه أيضاً حكمة بالغة لكل مفاوض أو محاور... إن المصداقية السليمة والصريحة والمباشرة هي أساس التعامل بين الناس، وإذا حدث تلون أو خداع فتفقد الأطراف الثقة في بعضهم بعضاً، إن الشجاعة ليست بالصرعة ولكنها بالحكمة، إنها ليست في التشدد ولكنها في الاعتدال، ولذلك قيل الحليم من يملك نفسه عند الغضب، ولكن أيضاً قيل اتق ِشر الحليم إذا غضب، إن من مبادئ التفاوض الدولي مقولة طريفة وهي «إنه لا يمكنك أن تحافظ على الكعكة وتأكلها في نفس الوقت»

(You cannot have the cake and eat it).

إن التفاوض السليم الذي يقود إلى الحل يعتمد على ركائز ثلاثة أولها عدم المبالغة وإتباع الواقعية في المطالب وثانيها تفهم ظروف الطرف الآخر أو كما يقال ضع نفسك مكان الطرف الآخر وقدر ظروفه وثالثها المقولة المنسوبة للإخوة في لبنان مبدأ لا غالب ولا مغلوب أو كما يقال في نظرية اللعب أو المباريات الإستراتيجية والعلمية الكسب للجميع (win - win game).

إن الإصرار على تجريد أحد أطراف العملية التفاوضية أو السياسية من أوراقه كاملة هو الوصفة الأكيدة للفشل حتى لو تحقق نجاح فهو مؤقت، إن الاصطفاف الديني أو الطائفي أو السياسي هو أيضاً وصفة أكيدة لإفساد الحلول في التفاوض، ولهذا قال الرسول الكريم وهو الأسوة الحسنة (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) ومن ينظر بدقة في هذه الصياغة يرى أنه قدم نصرته ظالماً قبل أن يذكر نصرته مظلوماً ولما سأله أصحابه «عرفنا كيف ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً» قال (تكفوا يده عن الظلم). أليس في ذلك آية من آيات العظمة، في حين نحن المسلمين في هذه الأيام نصطف مع أقاربنا أو أبنائنا أو عشيرتنا أو طائفتنا أو أبناء قريتنا أو أبناء ديننا مهما كانت أخطاؤهم بدلاً من أن ننصحهم ونعلمهم الصواب فإننا ندفعهم لتكرار ارتكاب الخطأ ومرة أخرى هم بدورهم يدفعوننا للتهلكة لأنهم يدخلوننا في دوامة من الصراع لا تنتهي.

وعودة لسلوك النبي الكريم عندما جاءه يهودي يطالبه برد الدين الذي استلفه منه، ولم يكن لدى النبي المال في تلك اللحظة، وطلب إمهاله بعض الوقت فرد اليهودي قائلاً أنتم يا معشر بني هاشم وفي رواية بني عبد المطلب قوم مطل (أي لا تدفعوا الحقوق) فاغتاظ عمر بن الخطاب وكان شاهداً للواقعة وقام ليضرب اليهودي، ولكن النبي الكريم الحليم الحكيم منعه قائلاً له قولته لمشهورة» إنا كنا أحوج لغير هذا منك يا عمر، أن تأمره بحسن الطلب، وأن تأمرني بحسن الأداء» أي عظمة هذه يا سيدي يا رسول الله وأين علماؤنا الآن من هذا السلوك؟

إن الشائعات هي من أكبر الآفات في تاريخ البشرية وبخاصة في لحظات التوتر أو الحروب وينبغي ألا نصدق كل إشاعة تصل إلينا لأنها عملية نفسية تدمر وتخرب وهدفها خبيث.

إنه في تقديري أن شعب البحرين بعراقته لديه حكمة كامنة، ولكن كبشر أحياناً ينسي تلك الحكمة، فمبدأ التعايش بين البشر هو من أهم الابتكارات السياسية في تاريخ البشرية، وبدونه كان الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة قد وقعوا في التدمير النووي المتبادل، ودمروا لكون ونحن معهم، وينبغي أن نتعلم الدرس بدقة ونستفيد من تجارب الآخرين ولكن الحذر من تقليدهم، وحقاً قال الأمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه وعليه السلام في نصيحة بالغة الدلالة للآباء «لا تجبروا أبناءكم أن يكونوا مثلكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم».

إنني على يقين بأنه ينبغي أن نتعلم الحكمة من رسولنا الكريم وصحابته وأهل بيته الكرام الطاهرين، ولكن لا ينبغي أن نهدم المعبد كما فعل اليهود في عقدة الماسادا.

هذه كلمات من قلب محب للبحرين أقولها تذكرة فإن الذكرى تنفع المؤمنين، بل تنفع كل صاحب قلب سليم وطيب، مثل شعب البحرين