مقالات الامير حسن
الدكتـور محمد نعمان جلال

مقدمة:

   

تعد ثورة 25 يناير 2011، هي أول ثورة مصرية منذ ثورة 1919، ومن ثم فأنها جاءت بعد ما يقرب من مائة عام على الثورة الوحيدة لمصر في القرن العشرين.  ولكن ثمة اختلافاً جوهرياً بين الثورتين، ثورة 1919 كانت ضد الحكم الأجنبي والاحتلال البريطاني لمصر، أما ثورة 25 يناير 2011، فهي ثورة ضد الحكم الاستبدادي الوطني، ومن ثم فإن ثورة 1919 هي أقرب للثورة الأمريكية في حين ثورة 2011 هي أقرب للثورة الفرنسية.

خلفية مفهوم تشريح الثورة:

مفهوم "تشريح الثورة" هو مفهوم حديث في الفكر السياسي، ولعل أشهر الكتب التي صدرت في هذا الصدد هو كتاب كرين برنتون Crane Brinton المعنون "تشريح الثورة"، والذي صدر لأول مرة عام 1938، وأعيد طبعه عام 1956، وجرى تحديثه وإضافة له عام 1964، الكتاب اشتهر لدى المتابعين والدارسين للعلوم السياسية في مصر وبعض الدول العربية الأخرى، خاصة أنه جرت عدة ترجمات له في القاهرة وبغداد وبيروت.  وقد اتبع كرين منهجاً تاريخياً في تشريحه للثورة، وهي المرحلة التمهيدية السابقة على الثورة، ثم المرحلة الثانية حيث تصاعد ما أسماه بالحمى، أي تزايد سخط الطبقة الوسطى، ثم المرحلة الثالثة حيث تولى المتطرفون زمام الأمور، وأخيراً المرحلة الرابعة حيث تعود الحياة إلى الهدوء السابق على الثورة، وتتجه السلطة الجديدة نحو الحالة التي سادت قبل قيام الثورة.

بالطبع تحليل كرين برنتون عليه عدة مآخذ منها نظرته المتشائمة، ومنها عدم تعمقه في بحث القوى السياسية الفاعلة، حيث تأثر في منهجه التاريخي بعملية اختطاف الثورة التي حدثت في الثورة الفرنسية عندما سيطر المتطرفون، ثم عندما تحدث عما أسماه مرحلة الخلاص استشهد بحالة الثورة الأمريكية بعد نجاحها في تحرير البلاد من الاستعمار البريطاني، وسيطرة جورج واشنطن، أو بحالة ستالين في الثورة الشيوعية في روسيا.  ولكننا نرى اختلافاً جوهرياً بين الحالتين، إذ أن واشنطن أقام نظاماً دستورياً أتيح له الاستقرار وتناوب السلطة، في حين أن الثورة الشيوعية كانت ضد المستبد الداخلي، وجاء ستالين للسلطة بعد وفاة لينين، وحولها إلى ديكتاتورية قمعية سادها الإرهاب الداخلي بأسوأ مما كان في عهد القياصرة، وأصبحت أجهزة الأمن والاستخبارات هي القوة الحاكمة وساد منهج "لافرينتي بيريا" (1899 - 1953) في القمع، ودخل حوليات التاريخ السوفيتي بل ربما التاريخ العالمي.

 إننا لن نستعرض تفصيلاً كتاب تشريح الثورة ولا منهجه أو المآخذ عليه، ولكننا نستهدف هنا فقط إرجاع الفضل لأهله في الإشارة لتاريخ مفهوم تشريح الثورة، والذي هو أساساً استعارة من العلوم الطبية، ولكننا في هذا البحث نقوم بعملية تطبيق المفهوم على ثورة 25 يناير 2011م في مصر.

ملاحظات منهجية:

 وقبل أن نتناول هذه الثورة بالتشريح السياسي فإننا نشير إلى أربع ملاحظات منهجية:

أولها: إن هذه الثورة لم تنته بعد، ومن ثم فإن التشريح لن يكون كافياً أو وافياً أو شاملاً.

وثانيها: إن القوى السياسية المشاركة في الثورة تطورت خلال فترة وجيزة، ومن الصعب تحديد دور كل قوة من الناحية العملية.

وثالثها: لماذا نقول حركة 25 يناير 2011م، هي ثورة؟  إننا ننطلق في هذا الصدد من التعريف الكلاسيكي لمفهوم الثورة، وهي أنها حركة شعبية جماهيرية مدنية تنطلق عفوية، وتجتذب جماهير عريضة، وتعبر عن مطالب للتغيير السلمي، وأحياناً تستخدم أساليب غير سلمية نتيجة بعض الانحراف في مسارها، كما حدث مع الثورة الفرنسية.

رابعها: ربما يتساءل القارئ، وماذا عن ثورة 1952م، في مصر؟ وللإجابة عن ذلك، نقول إنها لم تكن ثورة شعبية، بل انقلاباً عسكرياً ثم تحولت إلى شبه ثورة لتأييد الشعب لها، وظل طابعها عسكرياً في المقام الأول رغم تبنيها في مرحلة جمال عبدالناصر للمطالب الشعبية الجماهيرية، نظراً للشخصية الكارزماتية لجمال عبدالناصر من ناحية، ونظراً للظروف النضالية ضد الاستعمار الأجنبي من ناحية ثانية، ولإثارة مفهوم القومية العربية، وهو مفهوم عميق الجذور في الشخصية العربية، سبق أن طرح منذ القرن التاسع عشر، وإن تبلور بصورة أكثر تنظيمية وإيديولوجية في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي منذ أوائل الأربعينات في القرن العشرين.

ولكن رغم شعبية عبدالناصر، ورغم تنظيمات حزب البعث، فإن كلاهما أخفق في التعاون، بل تصارع الطرفان ولم يسفر "الانقلاب الثوري" - إذ جاز هذا التعبير - إلا عن قيام وحدة عربية قصيرة الأمد، ثم صراعات أكثر حدة بين الفكر الناصري القومي، والفكر البعثي القومي، بل بين أجنحة البعث الذي اعتمد على العمل الانقلابي العسكري المتعدد في أهم دولتين حكم فيهما، وهما سوريا والعراق، ثم تحول للعمل القمعي والحكم الاستبدادي، ومن ثم فإن التحليل العلمي يجعل النظر للفكر الناصري والفكر البعثي ربما يقترب من تحليل كرين برنتون في بروز التطرف الثوري والاستبداد، الذي استمر لأكثر من ستة عقود، ولم يتم بناء هيكل ديمقراطي على غرار ما حدث في الثورة الفرنسية، أو الثورة الأمريكية، ولم تتحقق نهضة اقتصادية تراكمية كما حدث في الثورة الصينية في مرحلتها الثانية أي في مرحلة بروز دنج سياو بنج ونحو ذلك.  افتقار الحالتين الناصرية والبعثية للهيكل التنظيمي السليم، والفكر الإيديولوجي الواضح والملتزم، هو الذي قاد لسيطرة العسكريين في مصر وسوريا والعراق، وسيطرة الحكم الفردي المستبد، وتراجع دور الشعب والقوى السياسية، والدخول في صراعات بين الدول الثلاث، بل بين سوريا والعراق، رغم وجود نفس الحزب في الحكم الذي انقسم إلى قيادات قومية وقطرية، وفي جميع الحالات سيطر العسكريون على السلطة، وأصبح الحزب أداة تابعة للجيش، وليس العكس كما حدث في الثورتين الفرنسية والأمريكية أو حتى في الثورة التي ارتبطت بالإصلاح في بريطانيا منذ القرن السابع عشر.

ورغم هذه التحفظات فإن الباحث أو الكاتب السياسي لابد أن يسعى لتقديم نوع من التأصيل بقدر الإمكان، لأنه لا يمكنه الانتظار لحين الكشف عن الوثائق الصحيحة بعد عدة سنوات أو صدور تسريبات جديدة من ويكيليكس.

حالة المجتمع المصري قبل 25 يناير 2011 والغليان الثوري:

ولو نظرنا للمجتمع المصري قبل 25 يناير 2011م، نجده في الفترة منذ التسعينات أصبح يعيش حالة من الغليان الثوري، ربما بلغت هذه الحالة مداها في أواخر عام 2010م، وتتمثل أبرز معالم تلك الحالة في الظواهر التالية:

1.    انتشار الفساد بصورة ما منذ بداية عهد الرئيس السادات والاتجاه نحو الانفتاح الاقتصادي، ولكنه بلغ قمته في التسعينات مع عملية الإصلاح الاقتصادي والخصخصة التي أدت لنشأة الطبقة الرأسمالية الاحتكارية الطفيلية الجديدة (ونستعير مصطلح الطبقة الجديدة من المفكر اليوغوسلافي ميلوفان جيلاس) أما الطفيلية فهي من المفاهيم المرتبطة بمراحل الانتقال السياسي، حيث تظهر طبقة تعيش على كد وعمل الآخرين، دون أن تساهم بطريقة عملية في الإنتاج وتنهب ثروات الدولة، وهذا ما حدث مع ظاهرة الخصخصة في مصر، حيث استولت الطبقة الجديدة المرتبطة بالسلطة على المصانع وشركات القطاع العام بأبخس الأسعار وتحولت إلى مليونيرات أو بليونيرات، وكان ذلك نتيجة تحالف ثلاثي غير مقدسي بين أساتذة جامعات تحولوا للمناصب الوزارية، والرأسماليين الجدد، والسلطة السياسية. وجرى تبادل المنافع بين القوى الثلاث.

2.    اغتيال إرادة الشعب من خلال الانتخابات المزورة المعتمدة على ثلاث قوى جهاز الدولة الإداري، الجهاز الأمني، الجهاز الحزبي المزيف، لأنه ولد بعملية قيصرية من قمة السلطة، ومن ثم ضم عناصر انتهازية من المثقفين وعناصر فاسدة من رجال الأعمال، وأصبح التحالف غير الشرعي بين هاتين القوتين وبين السلطة السياسية، وهو الابن غير الشرعي للنظام المهيمن على مقدرات الدولة والمجتمع، هذا لا يعني أن جميع أفراد الحزب أو أجهزة الدولة أو المثقفين ينطبق عليهم هذا التوصيف، وإنما هناك شرفاء كثيرون ولكن دورهم مغمور أو يتم تجاهله من القلة الحاكمة، أو مالوا إلى السلبية نتيجة طغيان التحالف الثلاثي المشبوه والمستبد.

3.    اغتصاب أموال الشعب في إطار ثلاث عمليات: الخصخصة، ومكافأة المحاسيب بالأراضي المملوكة للدولة، وأعمال السمسرة والعمولات في مختلف المجالات والأنشطة الاقتصادية، ومن ثم أصبح الاقتصاد بدوره اقتصاداً غير منتج، مع استخدام أسلوب الرشاوى القانونية، بمنح المكافآت والمناصب والأراضي، وكله يمثل فتات مقارنة بمكاسب الرأسمالية الجديدة، وكان من شأنه إفساد الذمم وشراء طاعة تلك الأجهزة الرقابية، وهذا معروف من سلوك بعض من أسندت إليهم المناصب القيادية في تلك الأجهزة، ومن خلال هذه الرشاوى القانونية مثل سن التقاعد، وزيادة المرتبات لهذه الفئات، والاستجابة لطلباتها أمكن تحييدها إلا قلة بالطبع في تلك الأجهزة الرقابية، وفي حالة الشرفاء جداً في تلك الأجهزة، يتم تناول تقاريرها ونقدها وتشويهها من خلال أجهزة أخرى لبث الإحباط لدى هؤلاء الشرفاء.

4.    إحباط الشباب الذي يتخرج من الجامعات من خلال عدم وجود وظائف، وعندما يتم التحدث عن بعض تلك الوظائف تعطى للأنصار والمحاسيب، ومن ثم أصبح معظم الشباب يعاني من الإحباط أو الضياع، فاتجه معظمه إما نحو التدين الحقيقي أو الشكلي أو نحو تعاطي المخدرات، ووجد المروجون لهذين الأمرين في الشباب بوجه عام لقمة سائغة، واتجه بعض الشباب للهجرة، وواجهوا كوارث السفن التي تغرق في البحر المتوسط، أو واجهوا النصابين، وأصبح المجتمع كما وصفه أحد المفكرين البارزين والحقوقيين النشيطين منقسماً إلى ثلاث فئات، الأولى: السارقون والمرتشون والنهابون.  الثانية: الفقراء المتسولون.  الثالثة: ما بين الاثنين، ربما هذه الفئة لا تجد ما تسرقه، وربما لديها عزة نفس عن التسول.  بالطبع هذا وصف ساخر لحالة المجتمع المصري، ولكن به جانباً من الصحة، وليست كلها بدليل استمرار المجتمع، والطبقة العاملة، والطبقة المتوسطة، والشباب كما سنرى لاحقاً في ثورة 25 يناير.

5.    الاتجاه لإذلال الجماهير عبر أجهزة الأمن، الأمر الذي كتبت عنه الكثير من المنظمات والتقارير الدولية من وجود تعذيب مستمر وبأساليب مبتكرة، وأشرت إليه شخصياً في عدة مقالات بجريدة الأهرام خلال السنوات الخمس الماضية، وأشارت إليه تقارير المجلس القومي لحقوق الإنسان.

ترتب على الظواهر السابقة عدة نتائج:

-         انفصال شديد بين النخبة الحاكمة وبين الجماهير، حيث عاشت الأولى ظاهرتين تدبيج التقارير والأرقام والإحصاءات غير الصحيحة، وبعد مرحلة تصدق نفسها، كما أخذت تبرر لنفسها ما تحصل عليه من امتيازات واستيلاء على الأموال العامة، لأن سادتهم يأخذون الكثير، أما الجماهير فقد عاشت في العشوائيات أو أولاد الشوارع التي أصبحت تحيط بالمدن الكبرى وتمثل قنابل موقوتة تهدد هذه المدن بل المجتمع بأسره.

-         تراجع حجم الطبقة المتوسطة وبروز الطبقة العليا التي يتوارى إقطاع ما قبل عام 1952م خجلاً من فجرها وغطرستها وحجم ثرواتها، وارتبطت بالسلطة الفاسدة، وتناقص حجم الطبقة الوسطى حاملة القيم والمبادئ والمثل، وتراجعت لديها القيم الصحيحة، وزاد عدد الطبقة الدنيا، وتم تهميشها، حتى انتشرت كوارث الانهيارات في المباني والجبال مثل حوادث المقطم وغيرها.

-       بروز القوى الدينية المتطرفة من ناحية، والتدين الشكلي من ناحية أخرى، فتحول السلوك الديني إلى ارتداء الحجاب والنقاب، بينما سادت الرشوة والفساد وإهمال العمل وإجادة الإنتاج، وهذا أهم القيم الإنسانية والدينية.  وعلى الجانب الآخر من الشعب المصري، برز تطرف ديني مماثل وترتب على ذلك تراجع مفهوم الولاء والانتماء والوحدة الوطنية، ومن ثم برز الصراع الديني في حوادث مثل اعتناق سيدة مسيحية الإسلام أو اعتناق رجل مسلم المسيحية، وكأن هذا يمثل كارثة فكرية وسلوكية ودينية، ونسى الطرفان مبدأ الحرية الدينية، كما نسى الطرفان مبدأ الولاء للوطن، ومبدأ الاعتدال والتسامح ونحو ذلك من القيم والمبادئ التي تحدثت عنها الأديان.

-       مع زيادة اغتصاب إرادة الشعب، وزيادة النفاق والانتهازية، والتفاني في خدمة السلطان، جرى تعديل الدستور وتعديل القوانين لمصلحة ذلك، ولعب بعض المثقفين وأساتذة القانون دوراً بالغ السوء في هذا الصدد، وأصبح دعاة القيم والدستور السليم والحكم الرشيد الصالح، كمن ينادي في البرية لا يسمعه أحد وإذا سمعه لا يهتم، وإذا أظهر اهتماماً شكلياً فلا يتجاوب معه عملياً، وهكذا كان حوار الحزب الوطني مع المجتمع وقواه السياسية، والفكرية والحزبية في السنوات التي سبقت ثورة 25 يناير هو حوار الطرشان.

القوات المسلحة والمجتمع المصري والنظام السياسي:

 لم تحظ القوى الحامية للوطن بالرعاية والتحديث الكافي بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، في حين جرى الاهتمام بالقوى الأمنية المدافعة عن النظام، وعندما جاءت اللحظة الحاسمة لم يكن أمام النظام سوى الالتجاء للقوى الحامية للوطن، والتي حرصت على الحياد والتعامل مع المواطنين الثائرين باحترام، في حين اختفت القوى الأمنية وروج بعضهم أسباباً غير معقولة عن اختفائها من الشوارع، فسادت الفوضى وشريعة الغاب، ولجأ المواطنون لحماية أنفسهم بأنفسهم.  ولا نلوم أي من هذه القوى، ولكن نلوم النظام وفلسفته وسلوكه ومؤسساته من حزبية وتشريعية وتنفيذية، لانعدام الرؤية الوطنية، والنظرة الإستراتيجية لديها، ولهذا انهار التعليم، كما انهارت الرعاية الصحية، وأنهار الإنتاج الزراعي والصناعي، وظهرت الدروس الخصوصية كغول يأكل الدخل، والأدوية المسرطنة، والمبيدات الحشرية المسرطنة، وظهر برلمانيو الفساد في الاتجار بأنبل شيء وهو الحج والعمرة والعلاج، بخلاف اتجار بعضهم في المخدرات والأراضي والحصول على قروض والهروب بها.

إن الدور الرئيس والبناء اضطلعت به القوات المسلحة المصرية، وهي قوات كانت وما تزال حريصة على ثلاث أهداف:

الأول: حماية الوطن والمواطنين، وعدم استخدام العنف أو القوة ضد المتظاهرين، بل التعاطف مع مطالبهم وتفهمها، والإعراب عن ذلك صراحة في بياناتها.

الثاني: العمل على تحقيق انتقال سلمي وسلس للسلطة من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي مع ما يلزم ذلك من تعديلات دستورية، وحوار مع القوى السياسية وإصلاحات سياسية واقتصادية، ومعاقبة الفساد وضبط الأمن والنظام.

الثالث: السعي لتحقيق خروج مشرف للرئيس مبارك باحترام واعتزاز، باعتباره رئيساً للدولة على مدى ثلاثين عاماً، وباعتباره أبناً من أبناء القوات المسلحة خاصة أن أعضاء القيادة العسكرية الحالية يدينون له بالولاء، ويكنون له الاحترام، وتحرص تلك القيادات على أن تتميز مصر في معاملتها لرئيسها عن غيرها من الدول والثورات، وهو ما حدث في خروج الملك فاروق إثر انقلاب عام 1952م باحترام وأطلقت له المدفعية 21 طلقة تحية له عند مغادرته البلاد على يخته "المحروسة" وهذا يعبر عن أصالة الشعب المصري وتقاليده الحضارية.

هذا وتتمتع القوات المسلحة في نظر الشعب المصري بسمات ثلاث:

1.    الانضباط والمهنية العالية، والبعد عن التسييس الذي شاب الأجهزة الأخرى للدولة.

2.    الانفتاح على كل قطاعات وطوائف المجتمع نتيجة الخدمة العسكرية الإجبارية.

3.    العلاقة الطيبة والاحترام لجماهير الشعب الذي يبادلها نفس التقدير والاحترام.

 ولعل ذلك يمثل العامل الرئيس والحاسم في الخروج السلمي من الأزمة الراهنة، ومن هنا كان سلوكها يقوم على الولاء للوطن، واحترام الرئيس، والتفهم والاحترام لمطالب الشعب.

وهذا يختلف عن سلوك القوات المسلحة لدول عربية وإسلامية مجاورة، التي لم تبد احتراماً لرؤسائها السابقين، ولا حتى لقيادات وزعامات وطنية كانت جزءاً من ثورتها ثم أكلت الثورة أبناءها، وهو أحد القوانين العلمية المرتبطة بكثير من الثورات، ولعلنا نشير إلى ما حدث في ردود الفعل لانتخابات رئاسية مزورة في دولة مجاورة عُذب واضُطهد وشُرد قادة لها لمجرد الاختلاف في الرأي مع أحد الفرقاء الذين أصبحوا في قمة السلطة، ووجهت لهم أفظع الاتهامات وأقساها بما يتنافى مع كل القيم والمبادئ الإسلامية.

اندلاع الثورة والقوى المشاركة والداعمة:

في ضوء ما سبق، انفجرت ثورة 25 يناير 2011م، ووقعت كالصاعقة على رؤوس الجميع.  وكانت هذه الثورة هي محصلة للعوامل السابقة والغليان الذي استمر لعدة سنوات، وإغماض السلطة عيونها وآذانها، وإعطاء إجازة مفتوحة لضميرها، حتى أن أحد أعضاء مجلس الشعب طالب بإطلاق النار على المعتصمين من العمال أمام المجلس للمطالبة برفع أجورهم، ومن خلال تزوير إرادة الشعب تم إعادة انتخاب هذا النائب، بدلاً من تقديمه للمحاكمة لدعوته لإطلاق النار على الشعب بدلاً من تمثيله والدفاع عن مصالحه.

ولكن مفجري ثورة 25 يناير كانت قوتان رئيسيتان هما، قوة الشباب الذي عانى من البطالة والفقر والأمراض وكان يراقب الفساد المستشرى، وقوة التكنولوجيا الحديثة.  هاتان القوتان لم يكن النظام يعيرهما اهتماماً، وذلك لأن جل اهتمامه كان منصباً على ملاحقة القوى الحزبية الشرعية أو غير الشرعية وقمعها حيناً أو التلويح لها بمكاسب وهمية وخداعها حيناً آخراً.  وبلغت عملية الملاحقة والخداع لهذه القوى في انتخابات مجلس الشعب في نوفمبر 2010م، وشعر الحزب الحاكم بالزهو من الانتصار المزور والوهمي، ولم يدرك أن الشعب الذي لم يصوت له، لأن نسبة المشاركة في الانتخابات لم تزد عن 15%، وأن اعترف الحزب نفسه بضعفها أي حوالي 35%، نقول إن هذا الشعب يعرف الكثير من حقائق الفساد والانحراف، ونسى هذا الحزب الحكمة القرآنية القائلة )إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ( سورة الفجر (14)

ولو نظرنا لنسبة المشاركة بتحليل علمي نجدها لا تعبر عن الحقيقة، لأن الفلاحين وهم الأغلبية من السكان يصوتون جماعياً في القرى، ويتأثرون بالإدارة وضغوطها، إما في المدن، فنظراً لضعف الإدارة فإن النسبة الحقيقية تراوحت بين 5-10%.  ورغم رصد المجلس القومي لحقوق الإنسان لحوادث التزوير الانتخابي، وتدوين ذلك في تقاريره المنشورة وفي بياناته، ورغم رصد الجهات الحقوقية الوطنية والدولية لكل ذلك، خرج أكثر من عضو من قيادات الحزب الوطني ليدعي أن عبقرية تكتيك الحزب وكوادره، هي التي أدت به إلى النتيجة الكبيرة في الحصول على معظم مقاعد مجلس الشعب في الانتخابات الأخيرة، وأبرز أن الفساد والانقسام ساد أحزاب المعارضة، وهذا سبب إخفاقها.  والجزء الأخير صحيح بدرجة كبيرة، ولكن وراء هذه الانقسامات في معظمها دور للأجهزة الأمنية في بث الفرقة وشراء العملاء والمخربين داخل كل حزب معارض، حتى لو كان هذا الحزب ضعيفاً، وخلق أحزاب وهمية، لا يسمع عنها أحد، وليست لها برامج، ولكنها مجرد خشب مسندة في المجلس ممثلة بعضو أو نحو ذلك من بقايا فتات الحزب الوطني.  ولعب المفهوم القانوني الخاطئ المسمى "المجلس سيد قراره" دوره في رفض تولي السلطة القضائية الرقابة على الانتخابات وفي إصدار إحكام قضائية بخصوص الطعون.

ولعبت ثلاث قوى أخرى الدور الثانوي للأحداث وهي الأخوان المسلمون من ناحية، والأحزاب المعارضة من ناحية ثانية، وبعض المثقفين والشخصيات العامة من ناحية ثالثة.  هذا الدور الثانوي كان دوراً داعماً وفاعلاً، فقد أدى لزيادة حجم المتظاهرين، وشجعهم على الاستمرار والإصرار على مواقفهم ومطالبهم، بل وتصعيد تلك المواقف كلما حصلوا على تنازل معين، وإبراز عدم المصداقية في مثل هذه التنازلات.  وهذه القوى الثلاث ذات الدور الثانوي والداعم لانطلاقة الشباب كان بينها وبين النظام ما يشبه الثأر، والرغبة في الانتقام لما حدث معها في انتخابات عديدة، وفي تدخلات الأمن والإدارة ضدها، وفي معاناتها الاقتصادية، وزيادة حجم الفقر لدى طبقات عديدة ومن ثم شجعت الشباب ودعمته.

 

أما القوى الداعمة لثورة 25 يناير من ناحية عملية فإن أولها وأهمها القوات المسلحة التي وقفت على الحياد، ورغم اختفاء الأمن من الدولة بصورة لا يمكن فهمها ولا تبريرها بأي منطق سليم.  كذلك بروز دور ضخم للفضائيات العربية وبخاصة الجزيرة والعربية، وأخيراً المساندة الدولية من أمريكا وأوروبا وضغوطها ضد النظام القائم بسبب ما حدث من تصلبه في مواجهة النصائح للإصلاح، ورفض تقديم أية تنازلات للقوى المجتمعية عبر السنوات السابقة. كما صرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأنه نصح الرئيس المصري حسني مبارك عدة مرات، ولكنه لم يستجب للنصح، وكررت الدول الغربية نفس الموقف الأمريكي، بل فعلت الصين وتركيا وغيرها الشيء نفسه.

مستقبل الأوضاع في مصر:

المشكلة الآن هي، ما هي الخطوة القادمة؟

لقد حققت ثورة 25 يناير نتائج رائعة في فترة قصيرة لضعف النظام نفسه، كما حدث في ثورة تونس قبل ذلك بأسابيع قلائل.  ولكن استمرار الاعتصام والتظاهر تحول من حركة مطلبية ثورية إلى حركة اعتصامية بهدف الاعتصام تحت تأثير القوى الحزبية التي ساندتها، ومن ثم برز نوعان من الخشية أو الخوف على مستقبل الثورة، وهما:

الأول: خشية ركوب إحدى القوى السياسية موجة الشباب واختطاف ثورتهم وأحلامهم، وتقديم النفاق السياسي والإعلامي لهم لحفزهم على الإصرار والاستمرار رغم ما تحقق من تجاوب من النظام.

الثاني: خشية تراجع النظام عن وعوده وعن تنازلاته ومن ثم التلاعب بنتائج الثورة ومكاسبها.

ومن هنا كان الإصرار على المواصلة والاستمرار، ولكن مثل هذا الاستمرار قد يؤدي إلى ثلاث نتائج:

الأولى: احتمال اختطاف الثورة الشبابية من قوة حزبية أو من زعامة فردية طامعة للوصول للسلطة، وهذه القوى المحتملة أو حتى الزعامات الطامعة لم تجرؤ على التحرك بين الجماهير قبل حركة شباب 25 يناير، والأكثر هو خداع هذه القوة أو الأفراد الطامعين لأنفسهم وللمجتمع بأنهم ساعدوا أو حركوا الجماهير.

الثاني: تدمير اقتصاد البلاد واستقرارها، لأن ثمة خسارة يومية حوالي مليار جنيه مصري من جراء استمرار حالة الشلل الاقتصادي والإنتاجي.

الثالث: إضعاف حالة الأمن والدفاع عن الوطن إذا استمرت القوات المسلحة في مهمة حفظ الأمن الداخلي، وهذا قد يغريها في مرحلة لاحقة لتولي السلطة بدلاً من التحول للديمقراطية، وهذا ما حدث في حركة الانقلاب عام 1952 عندما كانت هذه الحركة تسعى لإصلاح النظام، ثم وجدت تصارع الأحزاب والقوى السياسية فأصبح الإغراء كبيراً لها فتحولت من قوة المتفجر الداعي للتغيير إلى أداة التغيير ثم إلى الاستيلاء على التغيير.

لحسن الحظ فإن القيادة الجديدة المؤقتة للدولة من نائب الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الدفاع هي قيادات محايدة، وليس لديها طموحات نحو السلطة والسيطرة، وهي تؤكد على أنها مؤقتة، ومستعدة للحوار والتفاهم، وتؤكد مراراً وتكراراً أنه لا رجعة عن الإصلاح.  ولكن من يضمن المستقبل!

إن أي ثورة لابد لها من نهاية حتى تعود الأوضاع إلى الهدوء، وينصرف الشعب للإنتاج.  وضمان الاستمرارية في مسيرة الإصلاح ليس بالاعتصام والإضراب، وإنما ببناء المؤسسات السلمية والمراقبة الصحيحة ليس من أجهزة الرقابة فحسب، وإنما من الرأي العام، وإن يدرك النظام الحاكم أياً كان، أن الشعب يراقبه، وإن الرأي العام على استعداد للعودة مجدداً لأسلوب الاعتراض، والتظاهر والاعتصام إذا استدعى الأمر ذلك، وهذا هو ما يحدث في الدول المتقدمة.

ولكن من ناحية أخرى، فإن التجارب السياسية العالمية تشير إلى أنه لم يحدث لا في أية ثورة، أو في النظم الديمقراطية المستقرة، أن يفرض الشارع أو المعتصمون قرارهم، ففي الولايات المتحدة أو أوروبا تجري تظاهرات ضد قرارات معينة، ولكن السلطة الشرعية المنتخبة في الكونغرس والرئيس، هي صاحبة القول الفصل في اتخاذ القرار، والشعب يرفضها عبر صناديق الاقتراع، وليس عبر التظاهر الذي هدفه التعبير عن الرأي وقرع الجرس بوجود أخطاء أو خلاف مع الإدارة السياسية الحاكمة، لأن المشاكل الاقتصادية والسياسية أكثر تعقيداً من أن يتم اتخاذ قراراتها عبر التظاهر، فالنظام السياسي يقوم على أحد منهجين، إما على مبدأ ديمقراطية التوافق، أو مبدأ ديمقراطية الأغلبية والأقلية، والشعب هو الذي يقرر ذلك، وهو الرقيب النهائي عبر صناديق الاقتراع، ويضطلع الإعلام والمثقفون ومراكز الأبحاث بدورهم في نشر الوعي السياسي والثقافة السياسية.

هذا تشريح أولي لثورة 25 يناير من حيث مقدماتها وقواها الرئيسة والداعمة ونتائجها واحتمالات انحرافها إذا عاشت في زهو الانتصار أو تحت تأثير قوى طامعة للوثوب على أحلام الشباب وتطلعاتهم سواء قوى سياسية أو قوى دينية أو قوى مدفوعة من الخارج لتزييف إرادة الشعب ولإثارة الخلاف والتوتر والاضطراب المؤدي للصراع وعدم الاستقرار.