مقالات الامير حسن
د.علي فخرو

لنمعن النظر في المشهد الايرلندي السياسي: حكومة حزب يحكم بأغلبية برلمانية ساحقة عبر العديد من عقود الزمن, لكن الحزب الحاكم بعد مجد طويل يرتكب غلطة العمر في ادارة الحياة الاقتصادية الايرلندية, الامر الذي يؤدي الى ازمة مالية كادت - ان توصل البلد الى الافلاس والانهيار الاقتصادي. فماذا فعل الشعب الايرلندي كرد فعل لما ارتكبه الحزب الحاكم? لم يكن بحاجة لان يخرج في الشوارع ليصطدم بقوى الأمن وتسيل دماء الابرياء وذلك لان لديه آلية ديمقراطية سلمية للمساءلة والمحاسبة, متفقا عليها, محترمة من قبل الجميع, لا يمكن تزويرها او التلاعب بنتائجها, ونعني بها آلية الانتخاب الحر النزيه الدوري لبرلمان يمثل ارادة الشعب الحقيقية ويعكس مزاج ومشاعر وقرارات الناخبين, فكان ان أنزل الناخبون هزيمة منكرة بالحزب الحاكم وقلصوا نسبة تمثيله في البرلمان الجديد من ثمانين في المئة الى عشرين في المئة.

إرادة الشعب كانت هي الحكم واصواته الانتخابية كانت منطوق الحكم الواعي العادل. لم تتحرك قوى بلطجية الأمن او مخبريها السريين لتمنع العقاب. لم يقل الحزب الحاكم بان رئيسه هو المجد وهو الوطن وهو التاريخ ومصدر التقدم وان إزاحته هو إسقاط للنظام السياسي وان خروجه من الحكم خط احمر, لقد انسحب الحزب ليعلق جراحه وليهيئ نفسه لإقناع الناس, صاغرا ومستجديا, باعطائه فرصة جديدة في الانتخابات المقبلة.

لنقارن ذلك بالمشاهد المبكية المضحكة التي رأيناها مشدوهين لمسؤولي واحزاب الحكم في تونس ومصر وليبيا واليمن والتي قد نراها قريبا في اقطار عربية اخرى. لقد خرج الملايين من المواطنين في مظاهرات واعتصامات حاشدة سلمية ليعبروا عن غضبهم ويأسهم من سلطات ورموز الحكم الفاسدة الاستبدادية الظالمة وضحى الكثيرون من شبابهم الطاهرين العزل بحياتهم على يد قوى أمن أشبعت بثقافة اعلاء النظام السياسي على المواطنين والوطن.
لقد رأى العالم كله بشاعة البطش الهمجي في مدن وقرى تلك الاقطار واحس بالمكانة الدوَّنية التي تعطى للمواطنين من قبل انظمة الحكم. وكانت الفاجعة عندما خرج رموز الحكم على شاشات التلفزيونات ليسردوا بصورة مثيرة للشفقة بطولاتهم وتضحياتهم الشخصية السابقة ومنجزات حكمهم وحكم احزابهم في السنين الماضية. وببراءة الاطفال السذّج وجهل أميّة قراءة التاريخ بدا ان اولئك الرموز يؤمنون بأن حسنات الماضي تذهب وتمحو سيئات الحاضر, ونسوا ان الشعوب لها ذاكرة وحقوق وان المحاسبة هي اهم دعائم ممارسة السياسة, فما الفرق بين المشهد الايرلندي والمشاهد العربية? في بلاد العرب سدت منافذ التعبير بغياب الحرية ومنافذ المحاسبة والفعل بغياب الانظمة الديمقراطية او بوجودها كانظمة مزورة ومقيدة ومخترقة من قبل سلطات الحكم, بينما كان العكس في المجتمع الايرلندي.

مناسبة هذه المقارنة التي صادف ضرورتها حدوث المشهدين في وقت واحد وبصورة صارخة موجعة للقلب, وبالمقارنة يجب ان يقرأ الجميع صورة المستقبل السياسي العربي, فسلطات الحكم يجب ان تعرف ان سدها لمنافذ التعبير الحر ولامكانيات الفعل الديمقراطي السلمي, في الماضي وفي الحاضر, سيبقيها مهتزة الاركان وقابلة للانهيار, لن تستطيع الجيوش ولا اجهزة الامن ولا اكاذيب الاعلام البليد ولا حيل النهب المبرمج لثروات الامة ولا القوى النفعية حمايتها من السقوط المذل المبهر الذي رأينا صورا منه خلال الاسابيع الماضية, طال الزمن ام قصر ستغلب الشعوب مذليها وقاهري مجتمعاتها.

أما الشعوب العربية, التي تسجل في ايامنا اروع الانتصارات وافجع التضحيات فان قادة كفاحها من شباب ومؤسسات تمرد على وحل الماضي مطالبون في هذه المرة بان لا يوقفوا مسيرة الانتقال الى الحرية والديمقراطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلا بعد وصولها الى بر الامان, وبر الامان هو ان لا تستطيع اية قوة في هذه الارض ارجاع تلك المسيرة الى الوراء. ونكوص تلك المسيرة يتم دوما على يد مجموعة صغيرة من الناس ديدنها انها تعشق انظمة الاستبداد لا لكي تعيش تحت ظلها وانما لكي تقود مسيرتها وتتلذذ بالدوس على كرامة وانسانية الناس.

ومع ذلك دعنا نذكر انفسنا منذ الآن بانه لم يوجد قط وعلى الاغلب لن يوجد, اي نظام سياسي يضمن دوام الانتصارات التي تحققها الشعوب المناضلة, الضمان الوحيد هي إرادة وحيوية الشعوب نفسها, دعنا منذ الان نهيئ اجيال المستقبل لتكون عندهم تلك الارادة وليمارسوها بحيوية. ينسب لونستن تشيرشل قوله بان الطغاة يركبون ذهابا وجيئة, نمورا يخافون ان ينزلوا من على ظهورها لانهم يعرفون ان النمور جائعة, دعنا نضيف على ما قاله تشرشيل بان النمور الجائعة في بلاد العرب قد اصبحت الشعوب الثائرة وانها ستأكل راكبيها.