مقالات الامير حسن
عبد الحسين شعبان

 

إذا كانت المياه عصب الحياة ويستحيل العيش من دونها، فإنها في الوقت نفسه، وبسبب ندرة توفرها والحاجة إليها، أصبحت مصدراً للنزاعات والحروب، واستخدمت كأداة نفوذ وإملاء إرادات على مرّ التاريخ. لكن تطور العلوم والتكنولوجيا وتعاظم الحاجة إلى استخدام المياه، جعلها محوراً للصراع الاجتماعي والسياسي الذي ازداد تأثيره تدريجياً على مستوى العالم كلّه، بسبب زيادة استخدام المياه فضلاً عن عدم ترشيده والاستفادة منه على نحو عقلاني، وشحّ بعض المنابع وجفافها. سواءً في الدول التي تملك المصادر الكافية من المياه أو الدول التي تريد زيادة مواردها منها وتأمين استمرارها. 

وحسب العلاّمة البروفسور حيدر كمونة المختص بهندسة تخطيط المدن والعمارة، فإنه مع دخول العالم، القرن الحادي والعشرين بدأت تتضح معالم عجز عالمي كبير في الموارد المائية، حيث تقدّر كمية المياه الكلية في العالم نحو 1386 مليار متر مكعب، تؤلف المياه العذبة منها نحو 5 .2% فقط، موزعة توزيعاً متبايناً في أنحاء العالم، وتشكّل الدول العربية منها 058% فقط مصادر للمياه المتجددة .

ولعل هذا النقص في الموارد المائية المترافق بسوء نوعية المياه بسبب التلوّث والتأثيرات السلبية الأخرى، حيث طغت المياه المالحة، خلق عجزاً مائياً كبيراً، ومع ارتفاع حجم التعداد السكاني وشحّ الموارد وزيادة الاستخدام ازدادت الهوّة على نحو شاسع بين ما هو متوافر وما هو مطلوب.

إن الذي دفعني لمراجعة كتاب البروفسور كمونة الأستاذ في جامعة بغداد “الرؤى المستقبلية لتحقيق الأمن المائي العربي” الصادر عن المعهد العراقي لحوار الفكر، العام ،2010 هو ما نشرته مجلة جون آفريك الفرنسية في عددها الصادر في شهر مارس/ آذار 2011 عن احتمال توقيع “اتفاقية إطار” لدول حوض نهر النيل، وذلك بانضمام جمهورية بوروندي إلى اتفاقية تقاسم مياه النيل، التي لم توقّع عليها مصر والسودان في حين أن إثيوبيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا وكينيا ومؤخراً بوروندي، وقّعت على الاتفاقية وتمنع مصر والسودان عن التوقيع. وبانضمام بوروندي إلى اتفاقية الإطار التي اعترضت عليها مصر والسودان المتضررتان الأساسيتان من الاتفاقية ستجرّد مصر من حقها في النقض (الفيتو) على مشروعات الدول المتشاطئة للنهر، ذلك الذي حصلت عليه العام 1929 بواسطة اتفاق وقعته عنها يومذاك بريطانيا بصفتها دولة الانتداب . وبموجب اتفاقية الإطار هذه يحق لبرلمانات الدول الستة الموقعة إنشاء “لجنة دول حوض النيل”، الأمر الذي يلغي أو يبطل مفعول اتفاقية العام 1959 التي ضمنت لمصر والسودان حق الانتفاع ب 90% من مياه نهر النيل، مع ضمان حق مصر في النقض (الفيتو) . هكذا يكون بإمكان الدول المتشاطئة بانضمام بوروندي اعتبار الاتفاقيات السابقة لاغية وكأنها شيء لم يكن، لأن إبرامها كان قد تم مع دولة مستعمِرة باسم دولة مستعمَرة (بريطانيا- مصر)، كما أن الزمن قد تجاوزها، لاسيما وأن احتياجات سكان البلدان المتشاطئة قد تضاعفت، ناهيكم عن التغييرات المناخية، وهو التبرير الذي تقوده إثيوبيا إزاء حماستها للتوقيع على اتفاقية الإطار .

ولعل الأخطر من ذلك هو ما تخطط له دول حوض النيل لإنشاء سد مائي يمكنه أن ينتج طاقة كهربائية بمعدل 60 إلى 80 ميغاوات لتزويد رواندا وتنزانيا وبوروندي بالطاقة.

وكانت إثيوبيا قد سبق وحصلت على تسهيلات من "إسرائيل" لبناء ثلاثة سدود على نهر النيل، مقابل تقديمها تسهيلات تساعد على هجرة اليهود الفلاشا إلى "إسرائيل". مع العلم أن الكيان الصهيوني يعرف جيداً ماذا يعني النيل “هبة السماء” لمصر، فهو يشكل عماد الحياة الاقتصادية والاجتماعية منذ الأزل، ولهذا فإن حرمان مصر من هذا المصدر الأساسي سيعني تعطيل قدراتها التنموية على جميع الصُعد.

 والجدير بالذكر أن "إسرائيل" استطاعت إثر النكوص العربي الذي حصل، لاسيما بعد التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد والصلح المنفرد استعادة علاقاتها مع ثلاثين دولة إفريقية سبق وأن قُطعت على خلفية عدوانها على الدول العربية بعد العام 1967 .

وقد جرت خلال العقد الماضي كلّه مباحثات مستمرة بين الدول الست المتشاطئة، ظلت مصر  بعيدة عنها، لأن مجرد التفكير بإلغاء نسبة الـ 90% من المياه، يعني موت مصر عطشاً، وهو الأمر الذي حاولت القاهرة أن تعقد من أجله لقاءات في شهر يناير/ كانون الثاني ،2011 لكن تدهور الأوضاع في مصر وفي ما بعد الإطاحة بنظام حسني مبارك، قد حال دون ذلك، الأمر الذي يحتاج إلى وقفة جادة ومسؤولة لبحث مشكلة المياه وتوزيعها طبقاً لاتفاقيات دولية تشارك فيها جميع الأطراف، ووفقاً لقواعد القانون الدولي، مع الأخذ في الاعتبار الاتفاقيات السابقة .

ولعل واحدة من المشكلات الجديدة التي ستواجه دول حوض النيل، هي دولة جنوب السودان الجديدة المرتقبة. ويمكن القول إن الدول المتشاطئة، ما كان لها أن تتجرأ وتتصرف بالطريقة إيّاها، لولا الحرب المزمنة في جنوب السودان وضعف النظام المصري ونكوصه، ما أدى إلى التفريط بحقوق انتفاع سكان مصر والسودان من نسبة الـ90% المحددة طبقاً لاتفاقية العام 1959 من مياه نهر النيل .

وتعتبر مشكلة مياه نهر النيل من أعقد المشكلات التي ورّثها الحكم السابق في مصر إلى ثوار الانتفاضة والحكم الجديد، وهي مشكلة تتعلق بصميم المصالح الحيوية المصرية، بل بما يسمى الأمن القومي العربي، وهما مسألتان ضعفتا في سنوات حكم ما بعد الرئيس جمال عبد الناصر، سواء في ظل الرئيس أنور السادات أو حسني مبارك، خصوصاً عندماً ضعف الدور المصري في إفريقيا، بل وعلى المستوى الإقليمي والدولي .

ويمكن القول أن هناك تناسباً عكسياً بين مصادر المياه وبين ارتفاع معدلاّت النمو السكانية، فالتطور السكاني الديموغرافي الحاصل، يؤدي بالتالي إلى استخدام أكبر للمياه، وهذا بدوره يؤدي إلى شحّ بالمياه، مما سيهدد الملايين بالموت عطشاً في حال التلاعب بنسبة المياه المخصصة لمصر والسودان، الأمر الذي يؤدي إلى احتمال قيام نزاعات وربما حروب بسبب نقص المياه الذي يعني نقص مقوّمات استمرار الحياة الإنسانية .

إن التحدّيات الخارجية التي تواجه المياه الدولية المشتركة مع دول الجوار الجغرافي بالنسبة لحوض النيل، تعد من أخطر وأعقد المشكلات التي ستواجه مصر والسودان في السنوات الثلاثين المقبلة، فنهر النيل يشكل المصدر الرئيس للمياه في مصر، وهو ثاني أطول نهر في العالم حيث يبلغ طوله من منابعه في بحيرة تنجانيقا حتى البحر المتوسط حوالي 6700 كم .

وإذا كان ثمة تحديات خارجية، سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية، تتعلق بالنيل وغيره من المياه العربية، فإن غياب إستراتيجية عربية أو على الأقل تعاون وتنسيق عربي للتصدي للسياسة التي لا تريد خيراً لشعوب البلدان العربية، ناهيكم عن عدم الاستخدام الرشيد للمياه وعدم تنقية مشروعات الري الحديثة، كالخزانات والسدود وغيرها، يلعب دوراً في تفاقم هذه المشكلة، التي تزداد مع وجود هذه المعوّقات الأساسية، فضلاً عن معوّقات تتعلق بالخبرة والكفاءة، ناهيكم عن المعوّقات البيئية والطبيعية والفنية والتمويلية وهو ما يعالجه البروفسور كمونة في كتابه المشار إليه، بعمق ومعرفة واستشراف مستقبلي .